كيسنجر وهيكل- تشابهات وتقديس الدولة بين السياسي والصحفي.

يقول الكاتب الأمريكي إيفان توماس في معرض تقديمه لكتاب جديد بالغ الأهمية حول تركة كيسنجر بعنوان "ظلال كيسنجر.. قوة رجل السياسة الأهم في أميركا": "يعتبر هنري كيسنجر أحد أبرز الساسة الذين بزغ نجمهم في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن أعظم إنجازاته على الإطلاق تتمثل في التسويق المستمر لصورته اللامعة، والتي لا تزال تشع حتى يومنا هذا".
ما أن وقعت عيناي على هذه العبارات، حتى تبادر إلى ذهني فورا ظاهرة الأستاذ محمد حسنين هيكل، لما بينهما من أوجه تشابه لافتة. فكل ما قيل عن كيسنجر يمكن أن يقال عن هيكل بحذافيره. فالأستاذ -كما يحلو لمحبيه تسميته- يُعد من بين الشخصيات المصرية والعربية الأشد تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى غرار كيسنجر (الذي يلقبه المقربون بالدكتور)، يمكننا القول بأن الترويج الدائم لشخصية الأستاذ هيكل، كرمز وفكر ومدرسة، هو أسمى إنجازاته على الإطلاق.
لقد اقترب كل من الأستاذ والدكتور من مراكز صنع القرار في كل من مصر وأمريكا، قبل أن يمتد تأثيرهما إلى خارج حدودهما الجغرافية. ففي حين امتد نفوذ كيسنجر عالمياً، توسع نطاق تأثير هيكل عربياً وأفريقياً وآسيوياً. وقد أتاحت خدمة الرجلين في مناصب حكومية رفيعة الفرصة لصقل خبراتهما الواسعة، سواء كانت أكاديمية للدكتور أو صحفية للأستاذ.
عند المقارنة بين الأستاذ والدكتور، نجد الكثير من أوجه التشابه والقليل من الاختلاف. وقد بدأت هذه التشابهات بولادتهما في عام 1923، حيث تجاوز كلاهما التسعين عاماً، مما أكسبهما خبرة ثرية وشاهدة على أهم الأحداث التي شهدها العالم والشرق الأوسط.
إلا أن أبرز أوجه التشابه بينهما يكمن في تقديسهما لمفهوم الدولة، وإعلاء شأنها على حقوق المواطنين السياسية، سواء تلك المتعلقة بقيم الحريات أو الديمقراطية أو سيادة القانون. وكأن الرجلين قد تناسيا أن الدولة في نهاية المطاف هي عبارة عن مجموعة من الأفراد الذين يُطلق عليهم مواطنون.
فقد صرح الأستاذ في حوار له حول رؤيته للتوفيق بين الأمن والحرية، بأنه يرى وطناً ينتحر باسم الحرية، متناسياً أن من يضحي بحريته مقابل الأمن، فإنه لا يستحق أياً منهما.
أما كيسنجر، فقد كان ولا يزال مكيافيلياً إلى حد يجعلك تشعر بأنه إنسان آلي لا يهدف إلا إلى الحفاظ على مصالح بلاده، حتى لو كان ذلك على حساب إبادة الخصوم.
لقد اقترب كل من الأستاذ والدكتور من مراكز صنع القرار في مصر وأمريكا، قبل أن يمتد نفوذهما خارج حدودهما. ففي حين اتسع نفوذ كيسنجر عالمياً، امتد تأثير هيكل عربياً وأفريقياً وآسيوياً. ولقد ساهمت خدمة الرجلين في مناصب حكومية عليا في تعزيز خبرتهما الواسعة، سواء كانت أكاديمية في حالة الدكتور أو صحفية في حالة الأستاذ.
فقد تقلد الأستاذ مناصب حكومية مرموقة في عهدي جمال عبد الناصر وأنور السادات، بينما شغل الدكتور منصبي وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون.
وخلال فترة خدمة الدكتور في الحكومة، ارتكب جيش بلاده مجازر أودت بحياة مئات الآلاف من الفيتناميين، كما ارتُكبت جرائم حرب واسعة النطاق، وقام الدكتور بتدبير انقلابات عسكرية، وساهم في إخماد الديمقراطيات في العديد من الدول، بما في ذلك إندونيسيا وتشيلي.
وفي المقابل، شهدت فترة خدمة الأستاذ في الحكومة هزيمة مصر عسكرياً، واحتلال شبه جزيرة سيناء، وحرمان المصريين من أي ممارسات ديمقراطية، وانتهاك حقوق الإنسان، وغياب سيادة القانون.
لقد ترك الدكتور كيسنجر إرثاً مؤسسياً هاماً تجسد في تغيير طبيعة مجلس الأمن القومي الأميركي، بالإضافة إلى إسهاماته الأكاديمية والفكرية الوفيرة. أما الأستاذ هيكل، فعلى الرغم من تركه وراءه كتباً ثرية ومقالات وشهادات عظيمة الأهمية، إلا أنه أخفق في تأسيس مؤسسة يستفيد منها آلاف الصحفيين المصريين والعرب الذين يعانون من غياب المهنية والتدريب والدعم الفني، على الرغم من امتلاكه للموارد المادية والمعرفية التي كانت لتسهل عليه هذه المهمة.
لقد استطاع الدكتور أن يتبوأ مكانة رفيعة في قلب السلطة في أهم دولة في العالم، على الرغم من وجود عقبات جمة، كلغته الإنجليزية التي تأتي في المرتبة الثانية بعد لغته الألمانية الأصلية. أما الأستاذ، فقد اقترب أكثر من اللازم من مجالس الحكام وخبايا السياسة العربية.
لقد قادت واقعية كيسنجر إلى تقديم تقييم متزن للسياسة الخارجية في ضوء المصالح القومية الأمريكية، في حين استُغلت موهبة الأستاذ هيكل لتبرير هزائم عسكرية كبرى مُنيت بها مصر والعرب.
لقد استمتع الرجلان بالتقرب من حكام عُرف عنهم الاستبداد وقمع معارضيهم. فقد صاحب الأستاذ القذافي والأسد وصدام حسين، وعبد الناصر من قبلهم، بينما ناصر الدكتور الشاه وصادق العديد من الجنرالات القتلة في آسيا وأمريكا الجنوبية.
يختلف الرجلان في علاقتهما بالوثائق، ففي الوقت الذي نشرت فيه ويكيليكس "مراسلات كيسنجر" التي تضم 1.7 مليون وثيقة، بما في ذلك 205 آلاف و901 وثيقة كتبها الدكتور كيسنجر خلال فترة خدمته من عام 1973 إلى عام 1976، كان الأستاذ هيكل من هواة جمع الوثائق وحراستها واحتكار بعضها.
لقد ركز الرجلان على التاريخ باعتباره الذاكرة الوحيدة للدول، وبسبب تقديسهما لفكرة سيادة التاريخ، فقد تناسيا أن هناك مستقبلاً! ويرى الدكتور أنه مع وصول الربيع العربي إلى مصر في مطلع عام 2011، ظهرت أوهام نهاية الاستبداد، حيث قاد جيل جديد من الشعب حراك الثورة بأساليب عصرية.
ويؤمن كيسنجر بأن الانتخابات والديمقراطية الإجرائية كشفت عن توزيع القوة في المجتمع المصري فقط بين فريق يتمثل في الجيش، الذي يمتلك التنظيم والسلاح، وفريق آخر يمثل القوى المتدينة في الأرياف، التي تمتلك التنظيم والأنصار.
ويقر كيسنجر بأنه مع عودة الجيش المصري إلى السلطة بعد انقلاب 3 يوليو/تموز، لم يكن أمام واشنطن سوى دعمه من أجل مصالحها، بغض النظر عن موقفها الأخلاقي من غياب الديمقراطية والحريات في مصر.
لقد عرف الدكتور والأستاذ بعضهما البعض، وتحاورا لساعات طويلة. وقد استفاد كيسنجر من هذه العلاقة أكثر مما أعطى، بينما اهتم الأستاذ بالدكتور بشكل مبالغ فيه، مما دفعه إلى الكتابة عن هذه اللقاءات باستفاضة واستحضار كل كلمة قالها أو لم يقلها الدكتور. وفي المقابل، لم يبد الدكتور أي قدر من الاهتمام بالأستاذ في كتاباته وحواراته الصحفية. ويبقى أن كليهما يشتركان في "معاداة التغيير" و"تقديس الماضي"، مما جعلهما يتناسيان أهمية المستقبل.
لقد عاش الرجلان حياة مديدة وحافلة بالإنجازات. وتوفي الأستاذ هيكل عن عمر يناهز 93 عاماً في منتصف عام 2016، بينما لا يزال الدكتور كيسنجر يتمتع بحياة نشطة، وبعد أن احتفل بعيد ميلاده الثامن والتسعين قبل بضعة أشهر، بدأ في كتابة كتابه الجديد عن الذكاء الاصطناعي وصراعات المستقبل.